فلسطين بعيون بريطانية

19‏/03‏/2012


هنادي قواسمي - الجزيرة توك - القدس المحتلة "لازم لازم لازم تشوفيه! هنادي، مستحيل يفوتك!”، قالت لي بحزم وهي تشرح عن فيلم The Promise. فيلم طويل، أو مُسلسل قصير كما يطلقون عليه (mini series) من أربع حلقات، أنتجته قناة البي بي سي الرابعة، وأخرجه المخرج البريطاني بيتر كوسمينكسي وعُرض في فبراير من العام الماضي.
كوسمينكسي قام بإخراج فيلمWarriors الذي يروى حكاية بريطانيين شاركوا في “بعثة سلام” في البوسنة في تسعينات القرن الماضي، وفيلم Shoot to Kill عن حكاياتهم في ايرلندا الشمالية، تصدى هذه المرة لحكايات البريطانيين في فلسطين.

 

، التي لم يرغب أحد في بريطانيا أن يسمعها. الفيلم ينتمي إلى فئة الدوكودراما ) فهو فيلم درامي يوثق لملامح من زمن الانتداب البريطاني في فلسطين.

بدأت فكرة الفيلم حينما تلقت قناة BBC تعليقا من جندي بريطاني سابق على فيلم Warriors مختوماً بالعبارة “يجب أن تنتجوا فيلماً عن الجنود البريطانيين في فلسطين”، وختم شاكيا: “لا أحد يتذكرنا!”. وتحوّل الإقتراح إلى حقيقة، 8 سنوات من البحث أنتجت أكواماً من الكتب والأوراق والتقارير والمقابلات مع المحاربين القدامى وكل ذوي العلاقة، و11 شهراً أستغرقها كوسمينكسي في قراءة كل ما حضره له الباحثون.



وكان “الوعد”، إيرين – شابة بريطانية في طريقها إلى “إسرائيل” مع صديقتها البريطانية – الإسرائيلية كاترينا، بنية الوقوف إلى جانبها ودعمها إذ كانت على أعتاب الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي. أيام قبل سفرهما، يقع بين يدي “إيرين” كتاب مُذكرات جدها “لين” Len الذي أرسل للخدمة في الجيش البريطاني في الفترة ما بين 1945- 1948. في حين تنهرها أمها عن الاطلاع على خصوصيات الآخرين، تصر هي على معرفة تاريخ جدها. ومن هنا تبدأ الحكاية، ينقسم الفيلم في مسارين من المشاهد، يعرض لنا في مساره الأول حياة إيرين في “إسرائيل” وتعرفها على اليهود والعرب خلال زيارتها عام 2005، وانتقالها بين صفحات مذكرات جدها، ليبدأ مسار جديد بمشاهد يعيشها جدها في الأربعينيات.
“هل سيكون حيادياً؟ منصفاً؟ ما معنى الحياد أصلا؟ هل سيقولون: هجرة، هروب، أم تطهير عرقي؟ كيف سيصورون الصراع؟ كلها أسئلة صاحبتني في بداية الفيلم. نحن الفلسطينيون دوما نترقب الحكاية التي ستروى عنا، نظنها ساحة حرب تقاس الأفكار فيها بميزان الربح والخسارة، وهي كذلك في غالب الأحيان. أما اليهود فقد اتهموا المخرج بمعاداة السامية، وأرسلوا له الكثير من رسائل الكراهية، كما عبرت السفارة الاسرائيلية في لندن عن انزعاجها من الفيلم.
بعيداً عن اليهود والعرب، ربما السؤال الأهم هنا: الفيلم بريطاني، كيف سيصور البريطاني نفسه؟ هل سيلومه على ما حصل؟ هل سيُحمله المسؤولية؟ هل سيظهر دور بريطانيا في القضية الفلسطينية؟ هل ينفع في حضرة هذا الفيلم أن نفكر بالمنطق البسيط المشهور: الخير والشر؟ من سيكون الجلاد في هذا الفيلم ومن ستكون الضحية؟ الأجوبة متعددة هنا.
يظهر في أحد المشاهد بداية الفيلم معنى “الوعد” المقصود، إذ يخاطب أحد الضباط الكتيبة التي يخدم فيها لين، قائلاً أن اليهود يتدفقون إلى فلسطين تحقيقاً “لوعد الله لهم”، وأن مهمة القوات البريطانية الفصل بينهم وبين العرب. الغريب، بل ربما الخدّاع هنا، أن “وعد” بلفور لم يذكر البتة في الفيلم، ولم تذكر كل مساعي بريطانيا الدبلوماسية في بدايات القرن العشرين من أجل تحقيق وعد بلفور وتسهيل “تأسيس الدولة اليهودية على أرض فلسطين”. وقد اعتبر بعض النقاد ذلك محاولة للتبرئة الذاتية وإلقاء اللوم كله على اليهود، وتصوير بريطانيا على أنها قوة فاصلة بين الطرفين لا أكثر، في حين أنها بنظرهم كانت تجني أرباحاً ببقائها في فلسطين باعتبارها مكانا استراتيجياً، وأنها قررت الانسحاب حينما رأت أن مخاسرها أكثر من مكاسبها بكثير. كوسمينكسي نفسه نفى ذلك في إحدى المقابلات الصحفية قائلاً: أنه أراد من خلال فيلمه أن يعرف البريطانيون أن لبلادهم ذنب ودور في واحد من أعقد الصراعات في العالم اليوم”.
تظهر في الفيلم المقابلات الكثيرة، بين الفترة التي ساد فيها الانتداب البريطاني، والفترة الحالية تحت الاحتلال الاسرائيلي. تُعرض أمامك مثلاً المقابلة بين العمليات التي ينفذها الفلسطينيون في تل أبيب وغيرها، وتلك التي نفذتها عصابات الأرجون والهاجانا الارهابية مستهدفة قوات الانتداب البريطاني. تُعرض المقابلة بين اليهود والفلسطينيين كطرفين تعرضا للاضطهاد، فالجندي “لين” متعاطف في بداية الفيلم مع اليهود الناجين من محاولات الابادة النازية، ويظهر وهو يساعد امرأة يهودية على الهروب من قبضة الجيش البريطاني والوصول إلى المستعمرات اليهودية. في المقابل، ينتقل “لين” في نهاية الفيلم إلى التعاطف مع العرب، ويسارع لمساعدة صديقه الفلسطيني للنجاة بنفسه و”الهروب”، ومن ثم يعده بحماية ابنه وارجاعه إليه بعد أن ضاع في زحمة الناس المُهجّرة. هل هي مقارنة صحيحة؟ أو هل هي مقارنة تضيع في ثناياها تفاصيل أكثر أهمية؟ هل المقارنات مفيدة؟ أم مختصرة للتفاصيل والحقائق؟
أترك هذه الأسئلة وأعود إلى أصل فكرة الفيلم، فالفيلم جاء أصلاً لتخليد رواية الجنود البريطانيين العائدين من فلسطين اللذين اشتكوا من اهمال المجتمع لهم وعدم تشجيعهم على سرد حكاياتهم. وإذا شاهدناه عبر هذه النظارة سيبهرنا الفيلم في تصوير المشاعر المختلطة للجنود البريطانيين متمثلة بـ”لين”، الجندي الذي ليس له إلا تنفيذ الأوامر العليا التي تتصارع أحياناً مع القيم الانسانية التي يؤمن بها. وهنا يبرز الأداء الرائع للممثل البريطاني Christian Cooke الذي أدى دور “لين” بإتقان ومشاعر تظهر بوضوح في تعابير وجهه.





إضافة للأداء المتقن للممثل Cooke ، تبهرك المشاهد المصورة في فلسطين وتثير في نفسك الشجن على ضياعها. مجرد فكرة رؤية مشاهد من فلسطين قبل قيام “اسرائيل”، ومشاهد من فلسطين بعد قيامها (1)، هذه الفكرة من الـ “قبل” والـ “بعد” بحد ذاتها تثير الحسرة وقد تدفعك للمقارنة التلقائية وللتخيل ماذا لو ماذا لو لم تضيع؟ أعجبني من الفيلم كذلك أنه يشعرك بواقعيته الدقيقة، فالأفكار والمعلومات التي تعرض في القسم الذي يصور حياة إيرين في فلسطين هي حقيقية وصادقة وتعكس المشهد المعقد جدا في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية، بدون مبالغة أو تقصير. على سبيل المثال لا الحصر: يعلو موضوع اليساريين الإسرائيليين المعارضين، التضييقات الاسرائيلية الشديدة على الناس في الخليل(2)، فلسطينيو الداخل، المُهجرون، حصار غزة، العمليات الاستشهادية.. إلخ.

الفيلم باختصار دراما رائعة وقطعة باهرة ببعدها الفني والسينمائي وببعدها المعرفي كذلك. ولا يسعني أن أختم سوى أنني تفاجأت من أن شبكة مثل BBC قد تنتج فيلماً كهذا قد يعتبر “مناصراً” لفلسطين.
ينتهي الفيلم بقيام “إيرين” بتحقيق الوعد الذي قطعه جدها الجندي على صديقه الفلسطيني والذي عاش طوال عمره بألم لأنه لم يفِ بوعده. فما هو هذا الوعد يا ترى؟
أدعوكم لمشاهدة الفيلم وأخبروني بآرائكم.

يمكنكم مشاهدته من هنا: http://www.channel4.com/programmes/the-promise/4od
——————————————————————–
(1) بعض المشاهد ليست في الاماكن الصحيحة التي يدعيها الفيلم، مثلاً صورت بعض المشاهد في القدس على أنها في نابلس، ومشاهد في عكا على أنها في الخليل، مما يجعلك تفكر أحياناً بالنسيج المتشابه في مدن فلسطين عامة.
(2) لي ملاحظة خفيفة الظل هنا: في المشاهد التي صورت في الخليل يظهر لافتة على مدرسة للبنات باسم:رمزي خوري، وهو خطأ وقع به المخرج، فالاسم مسيحي 100%، ولا وجود للمسيحيين في الخليل، وبالأخص في البلدة القديمة. أما الملاحظة “المضحكة” هنا أن المخرج نسي أو ربما لم يعرف أن اللهجات الفلسطينية تختلف من مدينة لأخرى، وأن اللهجة في الخليل مميزة وسهلة التمييز كذلك، ولكن الممثلين في مشاهد الخليل لا يمتون لهذه اللهجة بصلة. 

إرسال تعليق

(( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))